فصل: فائدة: المقصود من القضاء وصول الحقوق إلى أهلها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏

 فصـــل

في رجل حلف أنه من حين عقل لم يفعل الذنب وكان قد فعل هذا الذنب وله نحو عشرين سنة، ونوى بقلبه أنه لم يفعله من حين بلغ‏:‏ فهذا ينظر إلى مراده بقوله‏:‏ من حين عقل‏.‏ فإن كان مراده من حين بلغ الحلم، فهو بار ولا حنث عليه بلا ريب‏.‏ وإن كان مراده‏:‏ أنه لم يفعله من حين ميز‏.‏ فابن عشر سنين يميز، فهذا إذا كان يعلم كذب نفسه فيمينه غموس، وهي من الكبائر، عليه أن يتوب إلى الله منها‏.‏ فإن كانت من الأيمان المكفرة ففيها قولان‏:‏ جمهور أهل العلم يقولون هي أعظم من أن تكفر، وإنما تمحى بالتوبة الصحيحة، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أشهر الروايتين عنه‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أن فيها الكفارة، وهو مذهب الشافعى وأحمد في الرواية الثانية عنه فاليمين بالله مكفرة باتفاق العلماء‏.‏

وأما الحلف بالنذر والظهار والحرام والطلاق والعتاق والكفر، كقوله‏:‏ إن فعلت كذا وكذا فعلى الحج، أو مالي صدقة، أو على الحرام، أو الطلاق / يلزمني لأفعلن كذا، وإن كنت فعلت كذا فعبيدي أحرار، أو إن كنت فعلت كذا فإني يهودي أو نصراني، فهذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال‏:‏ فقيل‏:‏ إذا حنث يلزمه التوبة‏.‏ وقيل‏:‏ لا شيء عليه‏.‏ وقيل‏:‏ بل عليه كفارة يمين، وهو أظهر الأقوال، كما بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع‏.‏

فإن كان قد حلف بهذه الأيمان يمينًا غموسًا فمن أوجب الكفارة في اليمين الغموس وقال‏:‏ إن هذه الأيمان تكفر فإنه يوجب فيها كفارة‏.‏ وأما من قال‏:‏ اليمين الغموس أعظم من أن تكفر، فلهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هذه يلزمه فيها ما التزمه من نذر وطلاق وعتاق وكفر، وإن قيل‏:‏ إن ذلك لا تلزمه اليمين المغفورة، وهي الحلف على المستقبل، وهذا قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة وأحمد‏.‏ واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لإسلام كاذبًا فهو كما قال، قالوا‏:‏ لأن هذه اليمين غير منعقدة بل الحنث فيها مقارن للعفو فلا كفارة فيها، وقد التزم فيها ما التزمه مع علمه بكذبه فيجب إلزامه بذلك عقوبة له على كذبه وزجرًا لمن يحلف يمينًا كاذبة، بخلاف اليمين المنعقدة فإن صاحبها مطيع لله ليس بعاص‏.‏

/والقول الثاني‏:‏ وهو قول الأكثرين ألا يلزمه ما التزمه من كفر وغيره، كما لا يلزمه ذلك في اليمين على المستقبل، وإنما قصد في كلا الموضعين اليمين، فهو لم يقصد إذا كان كاذبًا أن يكون كافرًا، ولا أن يلزمه ما التزمه من نذر وطلاق وعتاق وغير ذلك، كما لم يقصد إذا حنث في اليمين على المستقبل أن يلزمه ذلك، بل حقيقة كلامه ومقصوده هو اليمين في الموضعين، فما فرق فيه بين الكفر والنذر والطلاق والعتاق في أحد الموضعين وبين الحلف بذلك يفرق به في الموضع الآخر، لكن هو في الموضعين قد أتى كبيرة من الكبائر بيمينه الغموس فعليه أن يتوب إلى الله منها كما يتوب من غيرها من الكبائر، وإذا تاب من الذنب كان كمن لا ذنب له، ولا يصدر كفر ولا نذر ولا طلاق ولا عتاق، بل إنما صدر منه الحلف بذلك، والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عمن حلف بالمشي إلى مكة هل يلزمه المشي‏؟‏ أو الحج راكبًا ويفتدي أو يلزمه كفارة يمين‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله ، بل يجزيه كفارة يمين عند جماهير علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان مثل عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وحفصة بنت عمر، وزينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغير هؤلاء ـ رضي الله عنهم ـ وهو مذهب الشافعي وأحمد، وهو الرواية المتأخرة عن أبي حنيفة، وبذلك أفتى ابن القاسم ابنه لما حنث في هذه اليمين، وعلى هذا القول دل الكتاب والسنة‏.‏ كما بسط في غير موضع، والله أعلم‏.‏

/بسم الله الرحمن الرحيم

 وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ‏:‏

الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له‏.‏ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 224،227‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏87‏:‏ 89‏]‏‏.‏

فذكر الله اسم الأيمان في أربعة مواضع في قوله‏:‏ ‏{‏ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ ‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1، 2‏]‏، وهذا الاستفهام استفهام إنكار يتضمن النهي؛ فإن الله لا يستفهم لطلب الفهم والعلم فإنه بكل شيء عليم، ولكن مثل هذا يسميه أهل العربية استفهام إنكار، واستفهام الإنكار يكون بتضمن الإنكار مضمون الجملة‏:‏ إما إنكار نفى إن كان مضمونها خبرًا، وإمـا إنكار نهى إن كـان مضمونها إنشاء‏.‏ والكـلام إمـا خبر وإمـا إنشاء‏.‏ وهـذا كقوله‏:‏ ‏{‏ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏43‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏2‏]‏، ونحو ذلك‏.‏

فالله ـ تعالى ـ نهى نبيه عن تحريم الحلال كما نهى المؤمنين، وأخبر أنه فرض لهم تحلة أيمانهم، كما ذكر كفارة اليمين بعد النهي عن تحريم الحلال في سورة المائدة، وقوله‏:‏ ‏{‏ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 2‏]‏ هو ما ذكره / في سورة المائدة‏.‏ وكان سبب نزول التحريم تحريم النبي صلى الله عليه وسلم الحلال‏:‏ إما أمته مارية القبطية، وإما العسل، وإما كلاهما‏.‏ وكذلك آية المائدة فإن طائفة من المسلمين كانوا قد حرموا الطيبات إما تبتلاً وترهبًا، كما عزم على ذلك عثمان بن مظعون ومن وافقه من الصحابة حتى نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وإما غير ذلك‏.‏ وبين الله لهم أن الله جعل لمن حرم الحلال من هذه الأمة مخرجًا، وأن اليمين المتضمنة تحريمه للحلال له منها مخرج بالكفارة التي شرعها الله‏.‏

ليسوا كالذين من قبلهم الذين كانوا إذا حرموا شيئًا حرم عليهم ولم يكن لهم أن يكفروا، قال تعالى‏:‏‏{‏ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏93‏]‏، ولذلك قد قيل‏:‏ إنهم كانوا إذا حلفوا على فعل شيء لزمهم ولم يكن لهم أن يكفروا؛ولهذا قالت عائشة‏:‏كان أبو بكر الصديق لا يحنث في اليمين حتى أنزل الله كفارة اليمين؛ولهذا أمر الله أيوب بما يحلل يمينه؛لأنه لم يكن لهم كفارة‏.‏

فإن اليمين على الأشياء‏:‏ تارة تكون حضًا وإلزامًا، وتارة تكون منعًا وتحريمًا، كما أن عهد الله ورسوله وحكمه على خلقه ينقسم إلى هذين القسمين ولذا كان الظهار في الجاهلية وأول الإسلام طلاقًا حتى أنزل الله فيه الكفارة، وكذلك كان الإيلاء طلاقًا حتى أنزل الله حكمه؛ وذلك لأن الظهار نوع من التحريم فموجبه رفع الملك، إذ الزوجة لا تكون محرمة على التأبيد‏.‏ والإيلاء يقتضي عندهم تحريم الوطء، وذلك ينافي النكاح‏.‏

/وقد ذكر الله لفظ ‏[‏ اليمين‏]‏ في مواضع من كتابه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏106‏:‏ 108‏]‏ وقال تعالى في سورة براءة في سياق ذكر معاهدة المشركين‏:‏ ‏{‏ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏12، 13‏]‏ وقال تعالى‏:‏‏{‏ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏91، 92‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 109‏]‏، ‏{‏ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 38‏]‏، ‏{‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 53‏]‏‏.‏

قال أهل اللغة ـ وهذا لفظ الجوهري ـ‏:‏ اليمين القسم، والجمع أيمن وأيمان، فقال‏:‏ سمى بذلك؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا يمسك كل امرئ منهم على يمين صاحبه‏.‏

/ فصــل

ولفظ اليمين في كتاب الله، وكذا في لفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خوطبوا بالقرآن أولاً يتناول عندهم ما حلف عليه بالله بأي لفظ كان الحلف، وبأي اسم من أسمائه كان الحلف‏.‏ وكذلك الحلف بصفاته كعزته و‏.‏‏.‏‏.‏ وأحكامه، كالتحريم والإيجاب؛ فإن التحريم والإيجاب من أحكامه‏.‏ والحالف إذا قال‏:‏ أحلف بالله ليكونن، فهو قد التزم ذلك الفعل، وأوجبه على نفسه، أو حرمه على نفسه، وعقد اليمين بالله، فجعل لزوم الفعل معقودًا بالله لئلا يمكن فسخه ونقضه، فموجب يمينه في نفسها لزوم ذلك الفعل له، أو انتقاض إيمانه بالله الذي عقد به اليمين‏.‏ وهذا الثاني لا سبيل له إليه فتعين الأول، لكن الشارع في شريعتنا لم يجعل له ولاية التحريم على نفسه والإيجاب على نفسه مطلقًا، بل شرع له تحلة يمينه، وشرع له الكفارة الرافعة لموجب الإثم الحاصل بالحنث في اليمين إذا كان الحنث والتكفير خيرًا من المقام على اليمين‏.‏

وقد تنازع الفقهاء في اليمين‏:‏ هل تقتضي إيجابًا وتحريمًا ترفعه الكفارة، أو لا تقتضي ذلك‏؟‏ أو هي موجبة لذلك لولا ما جعله الشرع مانعًا من هذا الاقتضاء‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏:‏ أصحها الثالث كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى‏.‏

/والمقصود أن نذكر من أقوال الصحابة ما يبين معنى اليمين في كتاب الله وسنة رسوله وفي لغتهم، ففي سنن أبي داود‏:‏ حدثنا محمد بن المِنهْاَل، حدثنا يزيد بن زُرَيُع، حدثنا حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال‏:‏ إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رِتَاج الكعبة فقال له عمر‏:‏ إن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك‏)‏‏.‏

وهذا الرجل تكلم بصيغة التعليق ـ صيغة الشرط والجزاء ـ وعلق وجوب صرف ماله في رِتَاج الكعبة على مسألته القسمة، وهذه الصيغة يقصد بها نذر التبرر، كقوله‏:‏ إن شفا الله مريضي وسلم مالي الغائب فثلث مالي صدقة، ويقصد بها نذر اليمين الذي يسمى نذر اللجاج والغضب كما قصد هذا المعلق‏.‏ والصيغة في الموضعين صيغة تعليق‏.‏ لكن المعنى والقصد متباين، فإنه في أحد الموضعين مقصوده حصول الشرط الذي هو نعمة من الله كشفاء المريض وسلامة المال‏.‏ والتزم طاعة الله شكرًا لله على نعمته وتقربًا إليه، وفي النوع الآخر مقصوده أن يمنع نفسه أو غيره من فعل أو يحضه عليه وحلف، فالوجوب لامتناعه من وجوب هذا عليه، وكراهة ذلك وبغضه إياه، كما يمتنع من الكفر ويبغضه ويكرهه فيقول‏:‏ إن فعلت فهو / يهودي أو نصراني‏.‏ وليس مقصوده أنه يكفر، بل لفرط بغضه للكفر به حلف أنه لا يفعل؛ قصدًا لانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم؛ فإن الكفر اللازم يقصد نفيه فقصد به الفعل لنفى الفعل أيضًا، كما إذا حلف بالله فلعظمة الله في قلبه عقد به اليمين ليكون المحلوف عليه لازمًا لإيمانه بالله، فيلزم من وجود الملزوم وهو الإيمان بالله وجود اللازم وهو لزوم الفعل الذي حلف عليه، وكذلك إذا حلف ألا يفعل أمرًا جعل امتناعه منه لازمًا لإيمانه بالله وهذا هو عقد اليمين، وليس مقصوده رفع إيمانه، بل مقصوده ألا يرتفع إيمانه ولا ما عقده به من الامتناع، فسمى عمر بن الخطاب هذا يمينًا واستدل على أنه ليس عليه الفعل المعلق بالشرط بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطعية الرحم ولا فيما لا يملك‏)‏‏.‏

والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر اليمين والنذر، كما ذكر الله في كتابه اليمين والنذر؛ فإن اليمين مقصودها الحض أو المنع من الإنشاء أو التصديق أو التكذيب في الخبر‏.‏ والنذر ما يقصد به التقرب إلى الله ولهذا أوجب ـ سبحانه ـ الوفاء بالنذر؛ لأن صاحبه التزم طاعة لله، فأوجب على نفسه ما يحبه الله ويرضاه قصدًا للتقرب بذلك الفعل إلى الله‏.‏ وهذا كما أوجب الشارع على من شرع في الحج والعمرة إتمام ذلك لله؛ لقوله‏:‏/ ‏{‏وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ وإن كان الشارع متطوعًا وتنازع العلماء في وجوب إتمام غيرهما ‏.‏ ولم يوجب ـ سبحانه ـ الوفاء باليمين لأن مقصود صاحبها الحض والمنع، ليس مقصوده التقرب إلى الله تعالى‏.‏

ولكن صيغة النذر تكون غالبًا بصيغة التعليق صيغة المجازات كقوله‏:‏ إن شفا الله مريضى،كان على عتق رقبة‏.‏ وصيغة اليمين غالبًا تكون بصيغة القسم، كقوله‏:‏ والله لأفعلن كذا‏.‏ وقد يجتمع القسم والجزاء كقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏75‏:‏ 77‏]‏‏.‏

ولهذا ترجم الفقهاء على إحدى الصيغتين‏:‏ باب التعليق بالشروط، كتعليق الطلاق والعتاق والنذر وغير ذلك، وعلى الأخرى باب جامع الأيمان كما يشترك فيه اليمين بالله والطلاق والعتاق والظهار والحرام وغير ذلك‏.‏ ومسائل أحد البابين مختلطة بمسائل الآخر؛ ولهذا كان من الفقهاء من ذكر مسائل جامع الأيمان مع مسائل التعليق، ومنهم من ذكرها في باب الأيمان والمنفي بإحدى الصيغتين مثبت بالأخرى، والمقدم في إحداهما مؤخر في الأخرى‏.‏ فإذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فمالي حرام، أو عبدي حر، أو امرأتي طالق، أو مالي صدقة، أو فعلي كذا وكذا حجة، أو صوم شهر، أو نحو ذلك،/ فهو بمنزلة أن يقول‏:‏ الطلاق يلزمه لا يفعل كذا، أو العتق أو الحرام يلزمه والمشي إلى مكة يلزمه لا يفعل كذا ونحو ذلك‏.‏ ففي صيغة الجزاء أثبت الفعل وقدمه وأخر الحكم‏.‏ ولما أخر الفعل ونفاه وقدم الحكم والمحلوف به مقصوده ألا يكون ولا يهتك حرمته، وكذلك إذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فأنا كافر، أو يهودي، أو نصراني، فهو كقوله‏:‏ والله لأنه كذا‏.‏

ولهذا كان نظر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى معنى الصيغة ومقصود المتكلم، سواء كانت بصيغة المجازات أو بصيغة القسم‏.‏ فإذا كان مقصوده الحظ أو المنع جعلوه يمينًا، وإن كان بصيغة المجازات، وإن كان مقصوده التقرب إلى الله جعلوه ناذرًا وإن كان بصيغة القسم؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الناذر حالفًا؛ لأنه ملتزم للفعل بصيغة المجازاة‏.‏ فإن كان المنذور مما أمر الله به أمره به، وإلا جعل عليه كفارة يمين‏.‏ وكذلك الحالف إنما أمره أن يكفر يمينه إذا حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها اعتبارًا بالمقصود في الموضعين، فإذا كان المراد ما يحبه الله ويرضاه أمر به، وهو النذر الذي يوفي به وإن كان بصيغة القسم‏.‏ وإن كان غيره أحب إلى الله وأرضى منه أمر بالأحب الأرضى لله وإن كان بصيغة النذر، وأمر بكفارة يمين‏.‏ وهذا كله تحقيقًا لطاعة الله ورسوله، وأن يكون الدين كله لله، وأن كل يمين أو نذر أو عقد أو شرط تضمن ما يخالف أمر الله ورسوله فإنه لا يكون لازمًا، بل يجب تقديم أمر الله ورسوله على كل ذلك‏.‏

/فكل ما يقصده العباد من الأفعال والتروك إن كان مما أمر الله به ورسوله فإن الله يأمر به وبالإعانة عليه، وإن كان مما نهى الله عنه ورسوله فإن الله ينهى عنه وعن الإعانة عليه، وإن كان من المباحات فهو مع النية الحسنة يكون طاعة، ومع النية السيئة يكون ذنبًا، ومع عدم كل منهما لا هذا ولا هذا‏.‏

فالشرع دائمًا في الأيمان والنذور والشروط والعقود يبطل منها ما كان مخالفًا لأمر الله ورسوله؛ لكن إذا كان قد علق تلك الأمور بإيمانه بالله شرعت الكفارة ماحية لمقتضى هذا العقد؛ فإنه لولا ذلك لكان موجبه الإثم إذا خالف يمينه؛ ولهذا سمى ‏[‏حنثًا‏]‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 224‏]‏ وقد تواترت الآثار عن الصحابة والتابعين وغيرهم بأن معنى هذه الآية أنه لا يحلف أحدكم على أنه لا يبر ولا يتقى الله ولا يصل رحمه،فإذا أمر بذلك قال‏:‏ أنا قد حلفت بالله،فيجعل الحلف بالله مانعًا له من طاعة الله ورسوله‏.‏فإذا كان قد نهى سبحانه أن يجعل الله ـ أي الحلف بالله ـ مانعًا من طاعة الله فغير ذلك أولى أن ينهى عن كونه مانعًا من طاعة الله‏.‏ والأيمان الشرعية الموجبة للكفارة كلها تعود إلى الحلف بالله، كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى‏.‏

وإنما المقصود هنا ذكر بعض الآثار، قال أبو بكر الأثرم في سننه‏:‏ سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل عن رجل قال‏:‏ ماله في رتاج الكعبة / قال‏:‏ كفارة يمين، واحتج بحديث عائشة، قال‏:‏ وسمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يحلف بالمشى إلى بيت الله أو الصدقة بالملك أو نحو هذه الأيمان فقال‏:‏ إذا حنث فكفارة يمين، إلا أني لا أحمله على الحنث ما لم يحنث، قيل له لا يفعل‏.‏ قيل لأبي عبد الله‏:‏ فإذا حنث كفر‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قيل له‏:‏ أليس كفارة يمين‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال الأثرم‏:‏ حدثنا الفضل بن دُكَيْن، حدثنا حسن عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة، قالت‏:‏ من قال مالي في ميراث الكعبة، وكل مالي فهو هدى، وكل مالي فهو في المساكين، فليكفر يمينه‏.‏

وقال الأثرم‏:‏ حدثنا عارم بن الفضل، حدثنا معتمر بن سليمان، قال‏:‏ قال أبي‏:‏ حدثنا بكر بن عبد الله، أخبرني أبو رافع قال‏:‏ قالت مولاتي ليلى بنت العجماء‏:‏ كل مملوك لها محرر، وكل مال لها هدى، وهي يهودية وهي نصرانية إن لم تطلق امرأتك، أو تفرق بينك وبين امراتك‏.‏ قال‏:‏ فأتيت زينب ابنة أم سلمة، وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب، قال‏:‏ فأتيتها، فجاءت معى إليها، فقالت‏:‏ في البيت هاروت وماروت‏؟‏‏!‏‏!‏‏.‏ قالت‏:‏ يا زينب جعلني الله فداك، إنها قالت‏:‏ كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدى، وهي يهودية، وهي نصرانية، فقالت‏:‏ يهودية ونصرانية‏!‏‏!‏ خلي بين الرجل وامرأته فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت إليها فأتتها، فقالت‏:‏ يا أم المؤمنين، جعلني الله / فداك إنها قالت‏:‏ كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى، وهي يهودية وهي نصرانية، فقالت‏:‏ يهودية ونصرانية‏!‏‏!‏ خلي بين الرجل وبين امرأته، قال‏:‏ فأتيت عبد الله بن عمر، فجاء معى إليها فقام على الباب فسلم ، فقالت بينا أنت وبينا أبوك ‏.‏ فقال‏:‏ أمن حجارة أنت‏؟‏‏!‏ أمن حديد أنت‏؟‏‏!‏ أي شيء أنت‏؟‏‏!‏ أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي فتياهما، قالت؛ يا أبا عبد الرحمن، جعلنى الله فداك، إنها قالت كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدى، وهي يهودية وهي نصرانية، فقال‏:‏ يهودية ونصرانية، كفري عن يمينك، وخلي بين الرجل وبين امرأته‏.‏

وذكر هذا عبد الرزاق في مصنفه عن التيمي عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن بكر ابن عبد الله المزني، قال‏:‏ أخبرني أبو رافع، قال‏:‏ قالت لي مولاتي ليلى ابنة العجماء‏:‏ كل مملوك لها حر، وكل مالها هدى، وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امراتك‏.‏ قال‏:‏ فأتتنا زينب بنت أم سلمة ـ وكان إذا ذكرت امرأة فقيهة ذكرت زينب ـ فذكرت ذلك لها، فقالت‏:‏ خلي بين الرجل وبين امرأته، وكفري عن يمينك، قال‏:‏ فأتتنا حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا أم المؤمنين، جعلني الله فداك، وذكرت لها يمينها ، فقالت‏:‏ كفري عن يمينك، قال‏:‏ وأتينا عبد الله بن عمر، فقلنا‏:‏ يا أبا عبد الرحمن، وذكرت له يمينها، فقال‏:‏ كفري يمينك، وخلي بين الرجل وامرأته‏.‏

/قال ابن عبد البر‏:‏ قوله‏:‏ وكل مملوك لها حر‏.‏ هو من رواية سليمان التيمي وأشعث الحمراني،عن بكر المزني مع هذا الحديث، وفي رواية أشعث في هذا الحديث ابن عباس وأبو هريرة وابن عمر وحفصة وعائشة وأم سلمة؛ وإنما هو زينب بنت أم سلمة‏.‏

وقال الأثرم‏:‏ حدثنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا عمران، عن قتادة، عن زرارة بن أبي أوفى، أن امرأة سألت ابن عباس‏:‏ أن امرأة جعلت بردها عليها هديا إن لبسته، فقال ابن عباس‏:‏ أفي غضب، أم في رضا‏؟‏ قالوا‏:‏ في غضب‏.‏ قال‏:‏ إن الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يتقرب إليه بالغضب، لتكفر عن يمينها‏.‏

قلت‏:‏ ابن عباس استفسر النذر هل مقصودها التقرب بالمنذور كما قد يقول القائل‏:‏ إن سلم مالي تصدقت به ، أو مقصودها الحلف أنها لا تلبسه فيكون عليها كفارة يمين، فقال‏:‏ أفي غضب، أم رضا‏؟‏ فلما قالوا‏:‏ في غضب علم أنها حالفة، لا ناذرة؛ ولهذا سمى الفقهاء هذا نذر اللجاج والغضب فهو يمين وإن كان صيغته صيغة الجزاء‏.‏

وقال الأثرم‏:‏ حدثني ابن الطباع، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن العلاء بن المسيب عن يعلى بن النعمان، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ سئل عن رجل جعل ماله في المساكين‏؟‏ قال‏:‏ أمسك عليك مالك، وأنفقه على / عيالك، واقض به دينك، وكفر عن يمينك‏.‏ وقال حرب الكرماني في مسائله‏:‏ حدثنا المسيب بن واضح، حدثنا يوسف بن أبي السفر، عن الأوزاعي؛ عن عطاء بن أبي رباح، قال‏:‏ سألت ابن عباس عن الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله الحرام‏؟‏ قال‏:‏ إنما المشي على من نواه، فأما من حلف في الغضب فعليه كفارة يمين‏.‏ وقال الأثرم‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي الأسود، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن ابن عمر والحسن، قال‏:‏ إذا كان نذر الشكر فعليه وفاء نذره، والنذر في المعصية والغضب يمين‏.‏

وقال الأثرم‏:‏ حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، قال‏:‏ سئل عطاء عن رجل قال‏:‏ على ألف بدنة، فقال‏:‏ يمين، وعن رجل قال‏:‏ على ألف حجة، قال يمين‏.‏ وعن رجل قال‏:‏ مالي هدى قال‏:‏ يمين‏.‏ وعن رجل قال‏:‏ مالي في المساكين، قال‏:‏ يمين‏.‏ وقال أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن وجابر بن زيد في الرجل يقول‏:‏ إن لم أفعل كذا وكذا فأنا محرم بحجة، قال‏:‏ ليس الإحرام إلا على من نوي الحج، يمين يكفرها‏.‏ وقال أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه قال‏:‏ يمين يكفرها‏.‏ وقال الأثرم‏:‏ حدثنا أبو عبد الله حدثنا وكيع عن سفيان، عن ليث ، عن المنهال، عن أبي وائل في رجل قال‏:‏ هو محرم بحجة، قال‏:‏ يمين، وقال‏:‏ حدثنا أبو عبد الله، حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن أيوب يعنى ـ أبا العلاء ـ عن / قتادة ومنصور، عن الحسن‏:‏ في رجل قال‏:‏ إن دخل منزل فلان فعليه مشى إلى بيت الله‏؟‏ قال‏:‏ عليه كفارة يمين، قال‏:‏ فإن نذر أن يمشي فعليه المشي، وإن لم يطق المشي ركب فأهدى‏.‏ وقال أبو عبد الله‏:‏ حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثنا عاصم بن محمد، عن أخيه عمر بن محمد، قال‏:‏ جاء إنسان فاستفتى القاسم بن محمد ابن أبي بكر، فقال‏:‏ يا أبا محمد، كيف ترى في رجل جعل عليه مشيًا إلى بيت الله‏؟‏ فقال القاسم‏:‏ أجعله نذرًا‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أو جعله لله‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فليكفر عن يمينه‏.‏

 وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ‏:‏

ذكر ابن عساكر ما ذكره حنبل، قال‏:‏ سمعت أبا عبد الله يقول‏:‏ يقال مروان بن الحكم كان عنده قضاء، وكان يتبع قضاء عمر، وذكر ما ذكره أبو زرعة الدمشقي، قال‏:‏ الاختلاف بين الناس في هذين الرجلين‏:‏ محمد بن الوليد الزبيدي وسعيد بن أبي حمزة، وقد أخبرني الحكم بن نافع أنه رآهما جميعًا الزبيدي، وسعيد بن أبي حمزة‏.‏ ورأيته للزبيدي أكثر تعظيمًا، وهما صاحبا الزهري بالرصافة من قبل هشام بن عبد الملك، محمد بن الوليد الزُبَيدْي على بيت المال، وسعيد بن أبي حمزة على نفقات هشام‏.‏ وعن بقية قال‏:‏ قال لنا الأوزاعي‏:‏ ما فعل محمد بن الوليد الزبيدي‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ ولي بيت المال‏.‏ قال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

/وذكر ما ذكره الذهلي من حديث الزهري، حدثنا سعيد بن كثير بن عفير، أخبرنا عبد الله بن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، قال‏:‏ أخبرني قبيصة بن ذؤيب، أن امرأة نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة في أمر إن فعلته، ففعلت ذلك الأمر، فقدمت المدينة تستفتي عن نذرها، فجاءت عبد الله بن عمر فقال لها عبد الله‏:‏ لا أعلم الله أمر في النذر إلا بالوفاء، قالت المرأة‏:‏ فأنحر ابني‏؟‏ فقال عبد الله بن عمر‏:‏ قد نهاكم الله أن تقتلوا أنفسكم، ثم لم يزدها ابن عمر على ذلك‏.‏ فجاءت عبد الله بن عباس فاستفته عن ذلك، فقال‏:‏ أمر الله بوفاء النذر، ونهاكم أن تقتلوا أنفسكم‏.‏ وقد كان عبد المطلب بن هاشم نذر أن توافى له عشرة رهط أن ينحر أحدهم، فلما توافى له عشرة وأقرع بينهم أيهم ينحر، فصارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب ـ وكان أحب الناس إلى عبد المطلب ـ فقال عبد المطلب‏:‏ اللهم أهو أو مائة من الإبل، ثم أقرع بينه وبين مائة من الإبل في الجاهلية، وصارت القرعة على نحر مائة من الإبل فقال ابن عباس للمرأة‏:‏ فإني أرى أن تنحرى مائة من الإبل مكان ابنك، فبلغ الحديث مروان بن الحكم وهو أمير المدينة، فقال‏:‏ ما أرى ابن عمر وابن عباس أصابا الفتيا ‏(‏ إنه لا نذر في معصية الله‏)‏ استغفري الله وتوبي إليه، واعملي ما استطعت من الخير، فأما أن تنحري ابنك فإن الله قد نهاك عن ذلك‏.‏ قال‏:‏ فسر الناس بذلك، وأعجبهم قول مروان، ورأوا أن قد أصاب الفتوى، فلم يزل الناس يفتون بأن لا نذر في معصية الله‏.‏

/قلت‏:‏ ابن عمر كان من حاله أن يتوقف عن النذر للمعصية لا يأمر فيه لا بوفاء ولا ترك، كما  سئل عمن نذر صوم يوم العيد فقال‏:‏ أمر الله بالوفاء بالنذر، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم؛ وذلك أنه تعارض عنده دليلان‏:‏ الأمر، والنهي‏.‏ ولم يتبين له أن الأمر بوفاء النذر مقيد بطاعة الله؛ ولهذا نقل مالك في موطئه‏:‏ الحديث الذي أخرجه البخاري بعده عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن ندر أن يعصى الله فلا يعصه‏)‏، مع أن القرآن ليس فيه أمر بالوفاء بالنذر بلفظ النذر مطلقًا؛ إذ قوله‏:‏ ‏{‏يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏7‏]‏ خبر وثناء، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏29‏]‏ خاص، لكن الله أمر بالوفاء بالعهود والعقود، والنذر من ذلك، فهذا والله أعلم معنى قولهما‏:‏ أمر الله بالوفاء بالنذر‏.‏ وهذه حال من يجعل العهود والعقود مقتضية للوفاء مطلقًا من غير اعتبار في المعقود عليه‏.‏ وهذا كثيرًا ما يعرض لبعض أهل الورع كما عرض لابن عمر، حتى إنهم يمتنعون عن نقض كثير من العهود والعقود المخالفة للشريعة، وهم يتورعون ـ أيضًا ـ عن مخالفة الشريعة، فيبقون في الحيرة‏!‏

وأما ابن عباس فعنه في هذه المسألة روايتان‏:‏ إحداهما‏:‏ هذا، والأخرى‏:‏ عليه ذبح كبش، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وقول أبي حنيفة وغيره، وهذا هو الذي يناسب الشريعة، دون الاحتجاج بقصة عبد المطلب، فإن عمل أهل الجاهلية لا يحتج به أصلاً إلا إذا أقره الإسلام،/ لكن ابن عباس احتج به؛ لكون الدية أقرها الإسلام وهي بدل النفس، فرأى هذا البدل يقوم مقام المبدل في الافتداء، ثم جعل الافتداء بالكبش اتباعًا لقصة إبراهيم وهو الأنسب، والرواية الأخرى عن أحمد عليه كفارة يمين كسائر نذور المعصية‏.‏

والذي أفتى به مروان أنه لا شيء عليه هو قول الشافعي وأحمد في رواية وكل من يقول‏:‏ نذر المعصية لا شيء فيه‏.‏

وهذا النذر ظاهره نذر يمين، لكن المعروف عن ابن عمر وابن عباس أن ذلك يمين يكفرها‏.‏ فتبين أنه كان نذر تبرر كنذر عبد المطلب، ولكن مالك وغيره من أهل المدينة لا يفرقون بين البابين فرووا القصة بالمعنى الذي عندهم‏.‏

وقال ـ رحمه الله تعالى ‏:‏

 فصـــل

قد كتبت في قاعدة العهود والعقود‏:‏ القاعدة في العهود الدينية في القواعد المطلقة، والقاعدة في العقود الدنيوية في القواعد الفقهية، وفي كتاب النذر ـ أيضًا ـ أن ما وجب بالشرع إذا نذره العبد أو عاهد الله عليه أو بايع عليه الرسول أو الإمام أو تحالف عليه جماعة فإن هذه العهود / والمواثيق تقتضي له وجوبًا ثانيًا غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول فتكون واجبة من وجهين، بحيث يستحق تاركها من العقوبة ما يستحقه ناقض العهود والميثاق، وما يستحقه عاصى الله ورسوله‏.‏ هذا هو التحقيق‏.‏

ومن قال من أصحابنا إنه إذا نذر واجبًا فهو بعد النذر، كما كان قبل النذر، بخلاف نذر المستحب، فليس كما قال، بل النذر إذا كان يوجب فعل المستحب فإيجابه لفعل الواجب أولى، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل هما وجوبان من نوعين لكل نوع حكم غير حكم الآخر، مثل الجدة إذا كانت أم أم أم، وأم أم أب، فإن فيها سببين كل منهما تستحق به السدس‏.‏

وكذلك من قال من أصحابنا‏:‏ إن الشروط التي هي من مقتضى العقد لا يصح اشتراطها، أو قال‏:‏ تفسد حتى قال بعض أصحاب الشافعي إذا قال‏:‏ زوجتك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان كان النكاح فاسدًا؛ لأنه شرط فيه الطلاق، فهذا كلام فاسد جدًا؛ فإن العقود إنما وجبت موجباتها لإيجاب المتعاقدين لها على أنفسهما، ومطلق العقد له معنى مفهوم، فإذا أطلق كانا قد أوجبا ما هو المفهوم منه، فإن موجب العقد هو واجب بالعقد كموجب النذر لم يوجبه الشارع ابتداء وإنما أوجب الوفاء بالعقود، كما أوجب الوفاء بالنذر‏.‏ فإذا كان له موجب معلوم بلفظ مطلق أو بعرف وصرح المتعاقدان بإيجابه بلفظ خاص كان هذا من باب عطف الخاص على العام، فيكون العاقد / قد أوجبه مرتين، أو جعل له إيجابًا خاصًا يستغنى به عن الإيجاب العام‏.‏ وفي القرآن من هذا نظائر مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 59‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 90‏]‏‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل أمر أجيره أن يرهن شيئًا عند شخص فرهنه عند غيره، فعدم الرهن، فحلف صاحب الرهن إن لم يأته به لم يستعمله، معتقدًا أنه لم يعدم، ثم تبين له عدمه‏:‏ فهل يحنث إذا استعمله‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، إذا كان حين حلف معتقدًا أن الرهن باق بعينه لم يعدم فحلف ليحضر لم يحنث والحالة هذه، والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل حلف على ولده لا يدخل الدار حتى يعطيه الكساء الذي أخذه، ثم تبين له أنه لم يأخذ شيئًا‏:‏ فهل يحنث إذا دخل أم لا‏؟‏

/فأجاب‏:‏

إذا دخل منزله فلا حنث عليه إذا كانت الحالة ما ذكر؛ لكون المحلوف عليه ممتنعًا لذاته، كما لو حلف ليشربن الماء الذي في هذا الإناء، وليس فيه ماء في أصح القولين، ولأنه إنما حلف لاعتقاده أن ابنه أخذه وتبين بخلاف ذلك‏.‏ ومثل هذا فيه ـ أيضًا ـ نزاع‏.‏ والصحيح أنه لا حنث فيه، فصار غير حانث في هذين الوجهين‏.‏ والمسألة المشهورة إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه، فإن هذا جهل بالمحلوف عليه بنفسه، وذلك جهل بصفة المحلوف عليه، والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل حلفت عليه والدته ألا يصالح زوجته‏.‏ وإن صالحها ما ترجع تكلمه، فما يجب في أمره وصالح زوجته، وأمر والدته في الشرع المطهر‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا صالح زوجته كما أمر الله ورسوله فينبغي لها أن تكلمه وتكفر عن يمينها‏.‏ وكفارة اليمين إما عتق رقبة، وإما إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين رطلان من الخبز‏.‏ وينبغي أن يأدمه مما يؤكل بالموز والجبن واللحم وغيره، وإما كسوة عشرة مساكين ثوبًا ثوبًا، ويجوز أن يكفر عنها بإذنها الحالف أو زوجته‏.‏

/ وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ رحمه الله تعالى ‏:‏

كفارة اليمين هي المذكورة في سورة المائدة قال تعالى‏:‏ ‏{‏ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏89‏]‏، فمتى كان واجدًا فعليه أن يكفر بإحدى الثلاث، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام‏.‏ وإذا اختار أن يطعم عشرة مساكين فله ذلك‏.‏

ومقدار ما يطعم مبنى على أصل، وهو أن إطعامهم‏:‏ هل هو مقدر بالشرع، أو بالعرف‏؟‏ فيه قولان للعلماء‏.‏ منهم من قال‏:‏ هو مقدر بالشرع، وهؤلاء على أقوال‏.‏ منهم من قال‏:‏ يطعم كل مسكين صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو نصف صاع من بر، كقول أبى حنيفة، وطائفة‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ يطعم كل واحد نصف صاع من تمر وشعير، أو ربع صاع من بر؛ وهو مد، كقول أحمد وطائفة‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ بل يجزئ فى الجميع مد من الجميع، كقول الشافعى وطائفة‏.‏

والقول الثانى‏:‏ أن ذلك مقدر بالعرف لا بالشرع، فيطعم أهل كل بلد من أوسط ما يطعمون أهليهم قدرًا ونوعًا‏.‏ وهذا معنى قول مالك،قال إسماعيل / بن إسحاق‏:‏كان مالك يرى في كفارة اليمين أن المد يجزئ بالمدينة، قال مالك‏:‏ وأما البلدان فإن لهم عيشًا غير عيشنا فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم؛ لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ‏}‏ وهو مذهب داود وأصحابه مطلقًا‏.‏

والمنقول عن أكثر الصحابة والتابعين هذا القول؛ ولهذا كانوا يقولون‏:‏ الأوسط خبز ولبن، خبز وسمن، خبز وتمر‏.‏ والأعلى خبز ولحم‏.‏ وقد بسطنا الآثار عنهم في غير هذا الموضع وبينا أن هذا القول هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار،وهو قياس مذهب أحمد وأصوله، فإن أصله أن ما لم يقدره الشارع فإنه يرجع فيه إلى العرف، وهذا لم يقدره الشارع فيرجع فيه إلى العرف، لا سيما مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ‏}‏، فإن أحمد لا يقدر طعام المرأة والولد ولا المملوك، ولا يقدر أجرة الأجير المستأجر بطعامه وكسوته في ظاهر مذهبه، ولا يقدر الضيافة الواجبة عنده قولاً واحدًا، ولا يقدر الضيافة المشروطة على أهل الذمة للمسلمين في ظاهر مذهبه‏:‏ هذا مع أن هذه واجبة بالشرط، فكيف يقدر طعامًا واجبًا بالشرع‏؟‏ بل ولا يقدر الجزية في أظهر الروايتين عنه، ولا الخراج، ولا يقدر ـ أيضًا ـ الأطعمة الواجبة مطلقًا، سواء وجبت بشرع أو شرط، ولا غير الأطعمة مما وجبت مطلقًا، فطعام الكفارة أولى ألا يقدر‏.‏

/والأقسام ثلاثة فما له حد في الشرع أو اللغة رجع في ذلك إليهما، وما ليس له حد فيهما رجع فيه إلى العرف، ولهذا لا يقدر للعقود ألفاظًا بل أصله في هذه الأمور من جنس أصل مالك، كما أن قياس مذهبه أن مذهبه أن يكون الواجب في صدقة الفطر نصف صاع من بر، وقد دل على ذلك كلامه ـ أيضًا ـ كما قد بين في موضع آخر وإن كان المشهور عنه تقدير ذلك بالصاع كالتمر والشعير‏.‏

وقد تنازع العلماء في الأدم هل هو واجب أو مستحب ‏؟‏ على قولين‏.‏ والصحيح أنه إن كان يطعم أهله بأدم أطعم المساكين بأدم‏.‏ وإن كان إنما يطعم بلا أدم لم يكن له أن يفضل المساكين على أهله بل يطعم المساكين من أوسط ما يطعم أهله‏.‏

وعلى هذا فمن البلاد من يكون أوسط طعام أهله مدًا من حنطة كما يقال عن أهل المدينة، وإذا صنع خبزًا جاء نحو رطلين بالعراقي، وهو بالدمشقي خمسة أواق وخمسة أسباع أوقية، فإن جعل بعضه أدمًا كما جاء عن السلف كان الخبز نحوا من أربعة أواق، وهذا لا يكفي أكثر أهل الأمصار؛ فلهذا قال جمهور العلماء‏:‏ يطعم في غير المدينة أكثر من هذا‏:‏ إما مدان، أو مد ونصف على قدر طعامهم، فيطعم من الخبز إما نصف رطل بالدمشقي، وإما ثلثا رطل، وإما رطل وإما أكثر‏.‏ إما مع الأدم على قدر عادتهم في الأكل في وقت؛ فإن عادة الناس تختلف بالرخص / الغلاء، واليسار والإعسار، وتختلف بالشتاء والصيف، وغير ذلك‏.‏ وإذا حسب ما يوجبه أبو حنيفة خبزًا كان رطلاً وثلثًا بالدمشقي؛ فإنه يوجب نصف صاع عنده ثمانية أرطال‏.‏ وأما ما يوجبه من التمر والشعير فيوجب صاعًا ثمانية أرطال، وذلك بقدر ما يوجبه الشافعي ست مرات، وهو بقدر ما يوجبه أحمد بن حنبل ثلاث مرات‏.‏

والمختار أن يرجع في ذلك إلى عرف الناس وعادتهم، فقد يجزئ في بلد ما أوجبه أبوحنيفة، وفي بلد ما أوجبه أحمد، وفي بلد آخر ما بين هذا وهذا على حسب عادته، عملاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏‏.‏

وإذا جمع عشرة مساكين وعشاهم خبزًا وأدمًا من أوسط ما يطعم أهله أجزأه ذلك عند أكثر السلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وغيرهم، وهو أظهر القولين في الدليل، فإن الله ـ تعالى ـ أمر بإطعام، لم يوجب التمليك، وهذا إطعام حقيقة‏.‏

ومن أوجب التمليك احتج بحجتين‏:‏ إحداهما‏:‏ أن الطعام الواجب مقدر بالشرع، ولا يعلم إذا أكلوا أن كل واحد يأكل قدر حقه‏.‏ والثانية‏:‏ أنه بالتمليك يتمكن من التصرف الذي لا يمكنه مع الإطعام‏.‏ وجواب الأولى أنا لا نسلم أنه مقدر بالشرع، وإن قدر أنه مقدر به، فالكلام / إنما هو إذا أشبع كل واحد منهم غداء وعشاء، وحينئذ فيكون قد أخذ كل واحد قدر حقه وأكثر‏.‏ وأما التصرف بما شاء فالله ـ تعالى ـ لم يوجب ذلك إنما أوجب فيها التمليك؛ لأنه ذكرها باللام بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ ‏}‏؛ ولهذا حيث ذكر الله التصرف بحرف الظرف، كقوله‏:‏ ‏{‏وَفِي الرِّقَابِ ‏}‏، ‏{‏وَفِي سَبِيلِ اللّهِ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏60‏]‏، فالصحيح أنه لا يجب التمليك، بل يجوز أن يعتق من الزكاة وإن لم يكن ذلك تمليكًا للمعتق، ويجوز أن يشتري منها سلاحًا يعين به في سبيل الله وغير ذلك؛ ولهذا قال من قال من العلماء‏:‏ الإطعام أولى من التمليك؛ لأن المملك قد يبيع ما أعطيته ولا يأكله، بل قد يكنزه، فإذا أطعم الطعام حصل مقصود الشارع قطعًا‏.‏

وغاية ما يقال‏:‏ أن التمليك قد يسمى إطعامًا، كما يقال‏:‏ أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدة السدس، وفى الحديث‏:‏ ‏(‏ما أطعم الله نبيًا طعمة إلا كانت لمن يلى الأمر بعده‏)‏، لكن يقال‏:‏ لا ريب أن اللفظ يتناول الإطعام المعروف بطريق الأولى؛ ولأن ذلك إنما يقال إذا ذكر المطعم، فيقال‏:‏ أطعمه كذا، فأما إذا أطلق وقيل‏:‏ أطعم هؤلاء المساكين، فإنه لا يفهم منه إلا نفس الإطعام، لكن لما كانوا يأكلون ما يأخذونه سمى التمليك للطعام إطعامًا؛ لأن المقصود هو الإطعام‏.‏ أما إذا كان المقصود مصرفًا غير الأكل، فهذا لا يسمى إطعامًا عند الإطلاق‏.‏

/ وقال ـ قدسَ الله روحهُ ‏:‏

وأما النذر فهو نوعان‏:‏ طاعة، ومعصية‏.‏ فمن نذر صلاة أو صومًا أوصدقة فعليه أن يوفى به، وإن نذر ما ليس بطاعة مثل النذر لبعض المقابر والمشاهد وغيرها زيتا أو شمعًا أو نفقة أو غير ذلك، فهذا نذر معصية، وهو شبيه من بعض الوجوه بالنذر للأوثان، كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فهذا لا يجوز الوفاء به بالاتفاق، لكن من العلماء من يوجب كفارة يمين، كالإمام أحمد وغيره‏.‏ ومنهم من لا يوجب شيئًا، وهو قول أبي حنيفة والشافعي‏.‏

وإذا صرف الرجل ذلك المنذور في قربة مشروعة مثل أن يصرف الدهن في تنوير المساجد التي هي بيوت الله، ويصرف النفقة إلى صالحي الفقراء، كان هذا عملاً صالحًا يتقبله الله منه، مع أن أصل عقد النذر مكروه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه نهى عن النذر، وقال‏:‏ إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل، والله أعلم‏.‏

/ كتاب القضاء

قال أبو العباس ـ قدس الله روحهُ ‏:‏

 فائدة نافعة جامعة

المقصود من القضاء وصول الحقوق إلى أهلها، وقطع المخاصمة‏.‏ فوصول الحقوق هو المصلحة، وقطع المخاصمة إزالة المفسدة‏.‏ فالمقصود هو جلب تلك المصلحة وإزالة هذه المفسدة‏.‏ ووصول الحقوق هو من العدل الذي تقوم به السماء والأرض، وقطع الخصومة هو من باب دفع الظلم والضرر وكلاهما ينقسم إلى إبقاء موجود ودفع مفقود‏.‏ ففي وصول الحقوق إلى مستحقها يحفظ موجودها ويحصل مقصودها، وفي الخصومة يقطع موجودها ويدفع مفقودها‏.‏ فإذا حصل الصلح زالت الخصومة التي هي إحدى المقصودين‏.‏

وأما الحقوق، فإما أن تكون وصلت معه أو رضى صاحب الحق بتركه وهو جائز، وإذا انفصلت الحقوق بحكم وشهادة ونحو ذلك فقد يكون في فصلها جرح الحكام والشهود ونحو ذلك، وهو من المفاسد التي لا يصار إليها إلا لضرورة، كالمخاصمة، فإنه قد يكون في الفصل الأمر صعبًا بين المتخاصمين وغيرهما‏.‏

/فالأقسام أربعة‏:‏ إما فصل بصلح، فهذا هو الغاية؛ لأنه حصل المقاصد الثلاث على التمام‏.‏ وإما فصل بحكم مر، فقد حصل معه وصول الحق وقطع الخصومة، ولم يحصل معه صلاح ذات البين‏.‏ وإما صلح على ترك بعض ما يدعى أنه حق، فهذا ـ أيضًا ـ قد حصل مقصود الصلح وقطع النزاع، ولم يحصل مقصود وصول الحقوق، لكن ما يقوم مقامه من الترك‏.‏ ومن هنا يتبين أن الحكم بالصلح أحسن من الحكم بالفصل المر؛ لأنهما اشتركا في دفع الخصومة وامتاز ذلك بصلاح ذات البين مع ترك أحدهما لحقه، وامتاز الآخر بأخذ المستحق حقه مع ضغائن، فتلك المصلحة أكمل، لاسيما إن كان الحق إنما هو في الظاهر وقد يكون الباطن بخلافه‏.‏ وأما لا فضل ولا صلح، فهذا لا يصلح، يحصل به مفسدة ترك القضاء‏.‏

وإن كان الحق في يد صاحبه كالوقف وغيره يخاف إن لم يحفظ بالبينات أن ينسيه شرط ويجحد ولا يأتيه ونحو ذلك، فهنا في سماع الدعوى والشهادة من غير خصم حفظ الحق المجحود عن خصم مقدر، وهذا أحد مقصودى القضاء فلذلك يسمع ذلك‏.‏ ومن قال من الفقهاء‏:‏ لا يسمع ذلك، كما يقوله طوائف من الحنفية والشافعية والحنبلية، فعنده ليس للقضاء فائدة إلا فصل الخصومة ولا خصومة ولا قضاء؛ فلذلك لا تسمع البينة إلا في وجه مدعى عليه لتظهر الخصومة‏.‏ ومن قال بالخصم المسخر، فإنه ينصب للشر ثم يقطعه، ومن قال تسمع، فإنه يحفظ الحق الموجود ويذر الشر المفقود، والله أعلم‏.‏

/وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحهُ ‏:‏

 فَصْــل

فيما جعل الله للحاكم أن يحكم فيه، وما لم يجعل لواحد من المخلوقين الحكم فيه، بل الحكم فيه على جميع الخلق لله ـ تعالى ـ ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد من الحكام أن يحكم فيه على غيره، ولو كان ذلك الشخص من آحاد العامة‏.‏ وهذا مثل الأمور العامة الكلية التي أمر الله جميع الخلق أن يؤمنوا بها ويعملوا بها، وقد بينها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما أجمعت عليه الأمة، أو تنازعت الأمة فيه إذا وقع فيه نزاع بين الحكام وبين آحاد المسلمين، من العلماء أو الجند أو العامة، أو غيرهم، لم يكن للحاكم أن يحكم فيها على من ينازعه ويلزمه بقوله ويمنعه من القول الآخر، فضلاً عن أن يؤذيه أو يعاقبه‏.‏

مثل أن يتنازع حاكم أو غير حاكم في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ هل المراد به الجماع كما فسره ابن عباس وغيره‏؟‏ وقالوا‏:‏ إن مس المرأة لا ينقض الوضوء لا لشهوة ولا لغير شهوة‏.‏ أو المراد به اللمس بجميع البشرة إما لشهوة وإما مطلقًا، كما نقل الأول عن ابن عمر‏.‏ والثالث قاله بعض العلماء، وللعلماء في هذا ثلاثة أقوال‏.‏

/والأظهر هو القول الأول، وأن الوضوء لا ينتقض بمس النساء مطلقًا، وما زال المسلمون يمسون نساءهم ولم ينقل أحد قط عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يأمر المسلمين بالوضوء من ذلك، ولا نقل عن الصحابة على حياته أنه توضأ من ذلك، ولا نقل عنه قط أنه توضأ من ذلك، بل قد نقل عنه في السنن أنه كان يقبل بعض نسائه ولا يتوضأ، وقد اختلف في صحة هذا الحديث، لكن لا خلاف أنه لم ينقل عنه أنه توضأ من المس‏.‏

وكذلك تنازع المسلمون في الوضوء من خروج الدم بالفصاد والحجامة، والجرح، والرعاف، وفي القيء وفيه قولان مشهوران، وقد نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ من ذلك، وعن كثير من الصحابة، لكن لم يثبت قط أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الوضوء من ذلك، بل كان أصحابه يخرجون في المغازي فيصلون ولا يتوضؤون؛ ولهذا قال طائفة من العلماء‏:‏ إن الوضوء من ذلك مستحب غير واجب، وكذلك قال في الوضوء من مس الذكر ومس المرأة لشهوة‏:‏ إنه يستحب الوضوء من ذلك ولا يجب، وكذلك قالوا في الوضوء من القهقهة ومما مست النار‏:‏ إن الوضوء من ذلك يستحب ولا يجب، فمن توضأ فقد أحسن، ومن لم يتوضأ فلا شيء عليه، وهذا أظهر الأقوال‏.‏

وليس المقصود ذكر هذه المسائل، بل المقصود ضرب المثل بها‏.‏

/وكذلك تنازعوا في كثير من مسائل الفرائض كالجد والمشركة وغيرهما وفي كثير من مسائل الطلاق والإيلاء وغير ذلك، وفي كثير من مسائل العبادات في الصلاة والصيام والحج، وفي مسائل زيارات القبور، منهم من كرهها مطلقًا، ومنهم من أباحها، ومنهم من استحبها إذا كانت على الوجه المشروع، وهو قول أكثرهم‏.‏

وتنازعوا في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل يسلم عليه في المسجد وهو مستقبل القبلة، أو مستقبل الحجرة‏؟‏ وهل يقف بعد السلام يدعو له، أم لا‏؟‏

وتنازعوا أي المسجدين أفضل‏:‏ المسجد الحرام، أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، واتفقوا على أنهما أفضل من المسجد الأقصى، واتفقوا على أنه لا يستحب السفر إلى بقعة للعبادة فيها غير المساجد الثلاثة، واتفقوا على أنه لو نذر الحج أو العمرة لزمه الوفاء بنذره، واتفق الأئمة الأربعة والجمهور على أنه لو نذر السفر إلى غير المساجد الثلاثة لم يلزمه الوفاء بنذره، وتنازعوا فيما إذا نذر السفر إلى المسجدين إلى أمور أخرى يطول ذكرها، وتنازعوا في بعض تفسير الآيات، وفي بعض الأحاديث‏:‏ هل ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو لم تثبت‏؟‏

/فهذه الأمور الكلية ليس لحاكم من الحكام ـ كائنًا من كان ولو كان من الصحابة ـ أن يحكم فيها بقوله على من نازعه في قوله، فيقول‏:‏ ألزمته ألا يفعل ولا يفتي إلا بالقول الذي يوافق لمذهبي، بل الحكم في هذه المسائل لله ورسوله، والحاكم واحد من المسلمين، فإن كان عنده علم تكلم بما عنده، وإذا كان عند منازعه علم تكلم به، فإن ظهر الحق في ذلك وعرف حكم الله ورسوله وجب على الجميع اتباع حكم الله ورسوله، وإن خفي ذلك أقر كل واحد على قوله ـ أقر قائل هذا القول على مذهبه وقائل هذا القول على مذهبه ـ ولم يكن لأحدهما أن يمنع الآخر إلا بلسان العلم والحجة والبيان فيقول ما عنده من العلم‏.‏

وأما باليد والقهر، فليس له أن يحكم إلا في المعينة التي يتحاكم فيها إليه مثل ميت مات وقد تنازع ورثته في قسم تركته فيقسمها بينهم إذا تحاكموا إليه وإذا حكم هنا بأحد قولي العلماء ألزم الخصم بحكمه، ولم يكن له أن يقول‏:‏ أنا لا أرضي حتى يحكم بالقول الآخر‏.‏ وكذلك إذا تحاكم إليه اثنان في دعوى يدعيها أحدهما فصل بينهما كما أمر الله ورسوله، وألزم المحكموم عليه بما حكم به، وليس له أن يقول‏:‏ أنت حكمت على بالقول الذي لا أختاره، فإن الحاكم عليه أن يجتهد ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏)‏، وقد يخص الله بعض الأنبياء والعلماء /والحكام بعلم دون غيره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78، 79‏]‏

وعلى الحكام ألا يحكموا إلا بالعدل‏.‏ والعدل هو ما أنزل الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏58، 59‏]‏، فأوجب الله طاعة أولى الأمر مع طاعة الرسول، وأوجب على الأمة إذا تنازعوا أن يردوا ما تنازعوا إلى الله ورسوله إلى كتاب الله وسنة رسوله‏.‏

فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الحكم الذي يحكم بين عباده،والحكم له وحده وقد أنزل الله الكتب وأرسل الرسل ليحكم بينهم، فمن أطاع الرسول كان من أوليائه المتقين، وكانت له سعادة الدنيا والآخرة، ومن عصى الرسول كان من أهل الشقاء والعذاب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏، وفي صحيح مسلم عن عائشة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي من الليل يقول‏:‏ ‏(‏اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏، فبين ـ سبحانه وتعالى ـ أنه هداهم وبين لهم الحق، لكن بعضهم يبغي على بعض مع معرفته بالحق فيتبع هواه ويخالف أمر الله، وهو الذي يعرف الحق ويزيغ عنه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ الى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عليه يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏175،176‏]‏، فقد بين ـ سبحانه وتعالى ـ أنه بعث الرسل وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ الى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عليه تَوَكَّلْتُ وَاليه أُنِيبُ ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 10‏]‏، وقال يوسف‏:‏ ‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏39،40‏]‏، فالحكم لله وحده ورسله يبلغون عنه، فحكمهم حكمه، وأمرهم أمره وطاعتهم طاعته، فما حكم به الرسول وأمرهم به وشرعه من الدين وجب على جميع الخلائق اتباعه وطاعته؛ فإن ذلك هو حكم الله على خلقه‏.‏

والرسول يبلغ عن الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64،65‏]‏، فعلى جميع الخلق أن يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأفضل المرسلين وأكرم الخلق على الله، ليس لأحد أن يخرج عن حكمه في شيء سواء كان من العلماء أو الملوك أو الشيوخ أو غيرهم‏.‏ ولو أدركه موسي أو عيسي وغيرهما من الرسل كان عليهم اتباعه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏، وروي عن غير واحد من السلف ـ علي وابن عباس وغيرهما ـ قالوا‏:‏ لم / يبعث الله نبيًا من عهد نوح إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه‏.‏

وهو ـ سبحانه ـ أخذ الميثاق على النبي المتقدم أن يصدق من يأتي بعده وعلى النبي المتأخر أن يصدق من كان قبله؛ ولهذا لم تختلف الأنبياء، بل دينهم واحد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إنا معشر الأنبياء ديننا واحد‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏51، 52‏]‏، أي‏:‏ ملتكم ملة واحدة كقولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا على أُمَّةٍ ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏، أي‏:‏ ملة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّي بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا اليكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي وَعِيسَي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ على الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ اليه‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 13‏]‏‏.‏

فدين الأنبياء واحد، وهو دين الإسلام، كلهم مسلمون مؤمنون، كما قد بين الله في غير موضع من القرآن، لكن بعض الشرائع تتنوع، فقد يشرع في وقت أمرًا لحكمة، ثم يشرع في وقت آخر أمرًا آخر لحكمة، كما شرع في أول الإسلام / الصلاة الى بيت المقدس ثم نسخ ذلك وأمر بالصلاة الى الكعبة، فتنوعت الشريعة والدين واحد، وكان استقبال الشام ذلك الوقت من دين الإسلام، وكذلك السبت لموسي من دين الإسلام، ثم لما نسخ صار دين الإسلام هو الناسخ وهو الصلاة الى الكعبة، فمن تمسك بالمنسوخ دون الناسخ فليس هو على دين الإسلام ولا هو متبع لأحد من الأنبياء، ومن بدل شرع الأنبياء وابتدع شرعًا فشرعه باطل لا يجوز اتباعه، كما قال‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏21‏]‏؛ ولهذا كفر اليهود والنصاري؛ لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ، والله أوجب على جميع الخلق أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله، ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، فعلى جميع الخلق اتباعه واتباع ما شرعه من الدين وهو ما أتي به من الكتاب والسنة، فما جاء به الكتاب والسنة وهو الشرع الذي يجب على جميع الخلق اتباعه، وليس لأحد الخروج عنه، وهو الشرع الذي يقاتل عليه المجاهدون، وهو الكتاب والسنة‏.‏

وسيوف المسلمين تنصر هذا الشرع وهو الكتاب والسنة، كما قال جابر بن عبد الله‏:‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا ـ يعني السيف ـ من خرج عن هذا ـ يعني المصحف، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏، فبين ـ سبحانه وتعالى ـ أنه أنزل الكتاب وأنزل العدل وما به يعرف العدل ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد‏.‏ فمن خرج عن الكتاب والميزان قوتل بالحديد‏.‏ فالكتاب والعدل متلازمان، والكتاب هو المبين للشرع، فالشرع هو العدل، والعدل هو الشرع، ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع، ولكن كثيرًا من الناس ينسبون ما يقولونه الى الشرع وليس من الشرع، بل يقولون ذلك إما جهلاً وإما غلطاً وإما عمدًا وافتراء، وهذا هو الشرع المبدل الذي يستحق أصحابه العقوبة، ليس هو الشرع المنزل الذي جاء به جبريل من عند الله الى خاتم المرسلين فإن هذا الشرع المنزل كله عدل ليس فيه ظلم ولا جهل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏49‏]‏، فالذي أنزل الله هو القسط، والقسط، هو الذي أنزل الله وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ الى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا اليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 105‏]‏، فالذي أراه الله في كتابه هو العدل‏.‏

وقد يقول كثير من علماء المسلمين ـ أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم ـ أقوالا باجتهادهم، فهذه يسوغ / القول بها، ولا يجب على كل مسلم أن يلتزم إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا شرع دخل فيه التأويل والاجتهاد، وقد يكون في نفس الأمر موافقًا للشرع المنزل فيكون لصاحبه أجران، وقد لا يكون موافقًا له، لكن لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فإذا اتقي العبد الله ما استطاع آجره الله على ذلك، وغفر له خطأه‏.‏

ومن كان هكذا لم يكن لأحد أن يذمه ولا يعيبه ولا يعاقبه ولكن إذا عرف الحق بخلاف قوله، لم يجز ترك الحق الذي بعث الله به رسوله لقول أحد من الخلق، وذلك هو الشرع المنزل من عند الله، وهو الكتاب والسنة وهو دين الله ورسوله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله لا يجاهدون على قول عالم ولا شيخ متأول، بل يجاهدون ليعبد الله وحده ويكون الدين له، كما في المسند عن ابن عمر قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتي يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقـوم فهو منهم‏)‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّي لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏، وفي الصحيحين عن أبي موسي الأشعري قال‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله‏)‏‏.‏

/فالمقصود بالجهاد ألا يعبد أحد إلا الله، فلا يدعو غيره، ولا يصلي لغيره ولا يسجد لغيره، ولا يصوم لغيره، ولا يعتمر ولا يحج إلا الى بيته، ولا يذبح القرابين إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يخاف إلا إياه، ولا يتقي إلا إياه، فهو الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو، ولا يهدي الخلق إلا هو، ولا ينصرهم إلا هو، ولا يرزقهم إلا هو، ولا يغنيهم إلا هو، ولا يغفر ذنوبهم إلا هو، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَاليه تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 51‏:‏ 55‏]‏‏.‏

والله ـ تعالى ـ قد حرم الشرك كله وأن يجعل له ندًا، فلا يدعي غيره لا الملائكة ولا الأنبياء ولا الصالحون ولا الشمس ولا القمر ولا الكواكب ولا الأوثان، ولا غير ذلك، بل قد بين أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا فهو كافر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 79، 80‏]‏،/ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ الى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56، 57‏]‏، ذم ‏[‏من‏]‏ الله ـ سبحانه وتعالى ـ لمن يدعو الملائكة والأنبياء وغيرهم من الصالحين، وبين أن هؤلاء الذين يدعونهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون الى الله بالوسيلة وهي الأعمال الصالحة، ويرجون رحمته ويخافون عذابه فكيف يدعون المخلوقين ويذرون الخالق‏؟‏‏!‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وهو ـ سبحانه وتعالى ـ عليم بأحوال عباده، رحيم بهم؛ كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأي امرأة من السبي إذا رأت ولدًا ألصقته ببطنها فقال‏:‏ أترون هذه واضعة ولدها في النار‏؟‏ قالوا‏:‏ لا يا رسول الله، قال‏:‏ ‏(‏لله أرحم بعباده من هذه بولدها‏)‏ وهو ـ سبحانه ـ سميع قريب قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي الي رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 50‏]‏، وهو ـ تعالى ـ رحيم ودود‏.‏ والود‏:‏ اللطف والمحبة، فهو يود عباده المؤمنين، ويجعل لهم الود في القلوب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 96‏]‏، قال ابن عباس وغيره‏:‏ يحبهم ويحببهم الى عباده‏.‏

/وهو ـ سبحانه ـ لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، بل يحب من يدعوه ويتضرع اليه، ويبغض من لا يدعوه قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من لا يسأل الله يغضب عليه‏)‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 681‏]‏، قال بعض الصحابة‏:‏ يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه، أو بعيد فنناديه‏؟‏ فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وهو ـ سبحانه وتعالى ـ ليس كالمخلوقين الذين ترفع اليهم الحوائج بالحجاب، بل في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يقول الله‏:‏ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏}‏، قال الله‏:‏ حمدني عبدي‏.‏ فإذا قال‏:‏ ‏{‏الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ ‏}‏، قال الله‏:‏ أثني علي عبدي‏.‏ فإذا قال‏:‏ ‏{‏مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ‏}‏، قال الله‏:‏ مجدني عبدي، فإذا قال‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏}‏، قال الله‏:‏ هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل‏.‏ فإذا قال‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالينَ ‏}‏، قال‏:‏ هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل‏.‏

/وهو ـ سبحانه ـ يتولي كلام عباده يوم القيامة، كما جاء في الصحيح، عن عدي بن حاتم أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ـ عز وجل ـ ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يري إلا شيئًا قدمه، وينظر أشأم منه فلا يري إلا شيئًا قدمه، وينظر أمامه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل، فإن لم يجد فبكلمة طيبة‏)‏‏.‏ وهو ـ سبحانه ـ قريب ممن دعاه يتقرب ممن عبده وأطاعه، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب الى شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب إلى ذراعًا تقربت منه باعًا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة‏)‏‏.‏

والله ـ سبحانه ـ يولي عباده إحسانًا وجودًا وكرمًا، لا لحاجة اليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏111‏]‏،ولا يحاسب العباد إلا هو وحده،وهو الذي يجازيهم بأعمالهم ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏

وهو الذي يرزقهم ويعافيهم وينصرهم ويهديهم، لا أحد غيره يفعل ذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20، 21‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 42‏]‏، وأصح القولين في الآية أن معناه من ذا الذي يكلؤكم بدلاً من الله‏؟‏ من الذي يدفع الآفات عنكم التي تخافونها من الإنس والجن‏؟‏

والرسول هو الواسطة والسفير بينهم وبين الله ـ عز وجل ـ فهو الذي يبلغهم أمر الله ونهيه ووعده ووعيده، وتحليله وتحريمه، فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وليس لأحد أن يخرج عن شيء مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الشرع الذي يجب على ولاة الأمر إلزام الناس به، ويجب على المجاهدين الجهاد عليه، ويجب على كل واحد اتباعه ونصره‏.‏

وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق حكم الحاكم ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه، بل حكم الحاكم العالم العادل يلزم قومًا معينين تحاكموا اليه في قضية معينة، لا يلزم جميع الخلق، ولا يجب على عالم من علماء المسلمين أن يقلد حاكمًا لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به ورسوله، بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء، بل له أن يستفتي من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكمًا، ومتي ترك العالم ما عَلِمَه من /كتاب الله وسنة رسوله واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدًا كافرًا، يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏المص كِتَابٌ أُنزِلَ اليكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَي لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ اليكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏1، 3‏]‏

ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذي ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره، كان مستحقًا لعذاب الله بل عليه أن يصبر‏.‏ وإن أوذي في الله فهذه سنة الله في الأنبياء وأتباعهم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 1، 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّي نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏13‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏

وهذا إذا كان الحاكم قد حكم في مسألة اجتهادية قد تنازع فيها الصحابة والتابعون فحكم الحاكم بقول بعضهم وعند بعضهم سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخالف ما حكم به فعلى هذا أن يتبع / ما علم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأمر بذلك، ويفتي به ويدعو اليه، ولا يقلد الحاكم‏.‏ هذا كله باتفاق المسلمين‏.‏

وإن ترك المسلم عالمًا كان أو غير عالم ما علم من أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لقول غيره كان مستحقًا للعذاب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ اليمٌ ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏، وإن كان ذلك الحاكم قد خفي عليه هذا النص ـ مثل كثير من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم تكلموا في مسائل باجتهادهم وكان في ذلك سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخالف اجتهادهم ـ فهم معذورون لكونهم اجتهدوا، و‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، ولكن من علم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز له أن يعدل عن السنة الى غيرها قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَي اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 36‏]‏

ومن اتبع ما بعث الله به رسوله كان مهديًا منصورًا بنصرة الله في الدينا والآخرة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171‏:‏ 173‏]‏، وإذا أصابت العبد مصيبة كانت بذنبه لا باتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم، بل باتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم / يرحم وينصر، وبذنوبه يعذب ويخذل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 30‏]‏‏.‏

ولهذا لما انهزم المسلمون يوم أحد وكانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم واستظهر عليهم العدو بين الله لهم أن ذلك بذنوبهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَي الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 155‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّي هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 165]‏، وبين ـ سبحانه ـ حكمة ابتلائهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًي وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 137‏:‏ 141‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، والله قدرها، وقدر كل شيء‏.‏

لكن ما أصاب العبد من عافية ونصر ورزق فهو من إنعام الله عليه وإحسانه اليه، فالخير كله من الله، وليس للعبد من نفسه شيء، بل هو فقير لا يملك / لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وما أصابه من مصيبة فبذنوبه والله ـ تعالى ـ يكفر ذنوب المؤمنين بتلك المصائب، ويؤجرهم على الصبر عليها، ويغفر لمن استغفر، ويتوب على من تاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب، ولا هم ولا غم ولا حزن ولا أذي حتي الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه‏)‏، ولما أنزل الله ـ تعالى ـ قوله‏:‏ ‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏، قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، قد جاءت قاصمة الظهر‏!‏ وأينا لم يعمل سوءًا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يا أبا بكر، ألست تنصب‏؟‏ ألست تحزن‏؟‏ ألست تصيبك اللأواء‏؟‏ فذلك ما تجزون به‏)‏‏.‏

وقد قص الله علينا في القرآن أخبار الأنبياء وما أصابهم وما أصاب أتباعهم المؤمنين من الأذي في الله، ثم إنه ـ تعالى ـ نصرهم، وجعل العاقبة لهم، وقص علينا ذلك لنعتبر به قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَي وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًي وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏‏.‏

فالشرع الذي يجب على كل مسلم أن يتبعه ويجب على ولاة الأمر نصره والجهاد عليه هو الكتاب والسنة‏.‏ وأما حكم الحاكم فذاك يقال له قضاء القاضي، ليس هو الشرع الذي فرض الله على جميع الخلق طاعته، بل القاضي العالم العادل يصيب تارة ويخطئ تارة، ولو حكم الحاكم لشخص بخلاف /الحق في الباطن لم يجز له أخذه، ولو كان الحاكم سيد الأولين والآخرين كما في الصحيحين عن أم سلمة، قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنكم تختصمون الى، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه‏.‏ فإنما أقطع له قطعة من النار‏)‏، فهذا سيد الحكام والأمراء والملوك يقول‏:‏ إذا حكمت لشخص بشيء يعلم أنه لا يستحقه فلا يأخذه‏.‏

وقد أجمع المسلمون على أن حكم الحاكم بالأملاك المرسلة لا ينفذ في الباطن فلو حكم لزيد بمال عمرو وكان مجتهدًا متحريًا للحق لم يجز له أخذه‏.‏

وأما في العقود والفسوخ، مثل أن يحكم بنكاح أو طلاق أو بيع أو فسخ بيع ففيه نزاع معروف، وجمهورهم يقولون‏:‏ لا ينفذ أيضًا، وهي مسألة معروفة، وهذا إذا كان الحاكم عالمًا عادلاً وقد حكم في أمر دنيوي‏.‏

والقضاة ثلاثة أنواع ـ كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏القضاة ثلاثة‏:‏ قاضيان في النار، وقاض في الجنة‏:‏ رجل علم الحق وقضي به فهو في الجنة‏.‏ ورجل قضي للناس على جهل فهو في النار‏.‏ ورجل علم الحق وقضي بخلافه فهو في النار‏)‏، فالقاضي الذي هو من أهل الجنة إذا حكم للإنسان بما يعلم أنه غير حق لم يحل له أخذه، لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، فكيف إذا حكم في الدين الذي ليس له أن يحكم فيه، بل هو فيه واحد من المسلمين إن كان له علم تكلم، وإلا سكت؛/ مثل أن يحكم بأن السفر الى غير المساجد الثلاثة مشروع مستحب، يثاب فاعله وأن من قال‏:‏ إنه لا يستحب يؤذي ويعاقب أو يحبس، فهذا الحكم باطل بإجماع المسلمين، لا يحل لمن عرف دين الإسلام أن يتبعه، ولا لولي أمر أن ينفذه، ومن نفذ مثل هذا الحكم ونصره كان له حكم أمثاله إن قامت عليه الحجة التي بعث الله بها رسوله وخالفها استحقوا العقاب، وكذلك إن ألزم بمثل هذا جهلاً، وألزم الناس بما لا يعلم، فإنه مستحق للعقاب فإن كان مجتهدًا مخطئًا عفي عنه‏.‏

وقد فرض الله على ولاة أمر المسلمين اتباع الشرع الذي هو الكتاب والسنة، وإذا تنازع بعض المسلمين في شيء من مسائل الدين ولو كان المنازع من آحاد طلبة العلم لم يكن لولاة الأمور أن يلزموه باتباع حكم حاكم، بل عليهم أن يبينوا له الحق كما يبين الحق للجاهل المتعلم، فإن تبين له الحق الذي بعث الله به رسوله وظهر وعانده بعد هذا استحق العقاب‏.‏ وأما من يقول‏:‏ إن الذي قلته هو قولي، أو قول طائفة من العلماء المسلمين، وقد قلته اجتهادًا أو تقليدًا، فهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته‏.‏

ولو كان قد أخطأ خطأ مخالفًا للكتاب والسنة، ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين، فإنه ما منهم من أحد إلا وله أقوال اجتهد فيها أو قلد فيها وهو مخطئ فيها، فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق، بل قد قال الله تعالى في القرآن‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ اليه مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَاليكَ الْمَصِيرُ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعليها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ علينَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ على الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا على الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285، 286‏]‏، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن الله استجاب هذا الدعاء‏)‏‏.‏ ولما قال المؤمنون‏:‏ ‏{‏ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ‏}‏، قال الله‏:‏ ‏(‏قد فعلت‏)‏، وكذلك في سائر الدعاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه‏)‏‏.‏

فالمفتي والجندي والعامي إذا تكلموا بالشيء بحسب اجتهادهم اجتهادًا أو تقليدًا قاصدين لاتباع الرسول بمبلغ علمهم لا يستحقون العقوبة بإجماع المسلمين وإن كانوا قد أخطؤوا خطأ مجمعًا عليه‏.‏ وإذا قالوا‏:‏ إنا قلنا الحق، واحتجوا بالأدلة الشرعية، لم يكن لأحد من الحكام أن يلزمهم بمجرد قوله، ولا يحكم بأن الذي قاله هو الحق دون قولهم، بل يحكم بينه وبينهم الكتاب والسنة والحق الذي بعث الله به رسوله لا يغطي بل يظهر، فإن ظهر رجع الجميع اليه، وإن لم يظهر سكت هذا عن هذا وسكت هذا عن هذا؛ كالمسائل التي تقع يتنازع فيها أهل المذاهب لا يقول أحد‏:‏ إنه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكمًا، فإن هذا ينقلب، فقد يصير الآخر حاكمًا / فيحكم بأن قوله هو الصواب، فهذا لا يمكن أن يكون كل واحد من القولين المتضادين يلزم جميع المسلمين اتباعه، بخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه من عند الله، حق وهدي وبيان، ليس فيه خطأ قط، ولا اختلاف ولا تناقض قال تعالى‏:‏ ‏{‏ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وعلى ولاة الأمر أن يمنعوهم من التظالم، فإذا تعدي بعضهم على بعض منعوهم العدوان، وهم قد ألزموا بمنع ظلم أهل الذمة، وأن يكون اليهودي والنصراني في بلادهم إذا قام بالشروط المشروطة عليهم، لا يلزمه أحد بترك دينه، مع العلم بأن دينه يوجب العذاب، فكيف يسوغ لولاة الأمور أن يمكنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض، وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه، هذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها؛ فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا‏.‏

وهذا إذا كان الحكام قد حكموا في مسألة فيها اجتهاد ونزاع معروف، فإذا كان القول الذي قد حكموا به لم يقل به أحد من أئمة المسلمين، ولا هو مذهب أئمتهم الذين ينتسبون اليهم، ولا قاله أحد من الصحابة والتابعين، ولا فيه آية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل قولهم يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأئمة، فكيف يحل مع هذا أن يلزم علماء المسلمين / باتباع هذا القول، وينفذ فيه هذا الحكم المخالف للكتاب والسنة والإجماع، وأن يقال‏:‏ القول الذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف لا يقال‏.‏ ولا يفتي به بل يعاقب ويؤذي من أفتي به، ومن تكلم به، وغيرهم، ويؤذي المسلمون في أنفسهم وأهليهم وأموالهم لكونهم اتبعوا ما علموه من دين الإسلام وإن كان قد خفي على غيرهم، وهم يعذرون من خفي عليه ذلك ولا يلزمون باتباعهم، ولا يعتدون عليه، فكيف يعان من لا يعرف الحق بل يحكم بالجهل والظلم، ويلزم من عرف ما عرفه من شريعة الرسول أن يترك ما علمه من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل هذا‏؟‏‏!‏

لا ريب أن هذا أمر عظيم عند الله ـ تعالى ـ وعند ملائكته وأنبيائه وعباده والله لا يغفل عن مثل هذا، وليس الحق في هذا لأحد من الخلق‏.‏ فإن الذين اتبعوا ما علموه من شرع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يظلموا أحدًا في دم ولا مال ولا عرض، ولا لأحد عليهم دعوي، بل هم قالوا‏:‏ نحن نتبع ما عرفناه من دين الإسلام وما جاء به الكتاب والسنة من توحيد الله وعبادته لا شريك له، فلا نعبد إلا الله وحده، ونعبده بما أمر به رسوله وشرعه من الدين فما دعانا اليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمرنا به أطعناه، وما جعله الرسول دينًا وقربة وطاعة وحسنة وعملاً صالحًا وخيرًا سمعنا وأطعنا لله ولرسوله، واعتقدناه قربة وطاعة، وفعلناه وأحببنا من يفعل به، ودعونا اليه، وما نهانا / عنه الرسول انتهينا عنه وإن كان غيرنا يعتقد أن ذلك قربة، فنحن علينا أن نطيع الرسول، ليس علينا أن نطيع من خالفه وإن كان متأولاً‏.‏

ومعلوم أن أهل الكتاب وأهل البدع يتعبدون تعبدات كثيرة يرونها قربة وطاعة، وقد نهي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قال‏:‏ أنا أطيع الرسول ولا أتعبد بهذه العبادات، بل أنهي عما نهي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يسوغ أن يعارض، بل لو كان مخطئًا مع اجتهاده لم يستحق العقوبة بإجماع المسلمين، ولا يجب عليه اتباع حكم أحد بإجماع المسلمين‏.‏ وليس للحاكم أن يحكم بأن هذا أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا العمل طاعة أو قربة، أو ليس بطاعة ولا قربة، ولا بأن السفر الى المساجد والقبور وقبر النبي صلى الله عليه وسلم يشرع، أو لا يشرع ليس للحكام في هذا مدخل إلا كما يدخل فيه غيرهم من المسلمين، بل الكلام في هذا لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده علم تكلم بما عنده من العل‏.‏

وليس لأحد أن يحكم على عالم بإجماع المسلمين، بل يبين له أنه قد أخطأ فإن بين له بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس ولم يرجع بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء الى ذلك وجب أن يمنع من ذلك، ويعاقب إن لم يمتنع، وأما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة / الشرعية لم تجز عقوبته باتفاق المسلمين،ولا منعه من ذلك القول،ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا كان يقول‏:‏إن هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة كما قاله فلان وفلان من علماء المسلمين، فهذا إذا اجتهد فأخطأ لم يحكم عليه إلا بالكتاب والسنة، والمنازع له يتكلم بلا علم، والحكم الذي حكم به لم يقله أحد من علماء المسلمين، فعلماء المسلمين الكبار لو قالوا بمثل قول الحكام لم يكن لهم إلزام الناس بذلك إلا بحجة شرعية لا بمجرد حكمهم‏.‏

فإن الله إنما أوجب على الناس اتباع الرسول وطاعته، واتباع حكمه وأمره وشرعه ودينه، وهو حجة الله على خلقه، وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والهدي والضلال، والرشاد والغي، وطريق الجنة وطريق النار، وبه هدي الله الخلق، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ إِنَّا أَوْحَيْنَا اليكَ كَمَا أَوْحَيْنَا الى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا الى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَي وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عليكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عليكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَي تَكْلِيمًا رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ على اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 163‏:‏ 165 ‏]‏ الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما أحد أحب اليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين‏)‏، فالحجة على الخلق تقوم بالرسل، وما جاء به الرسول هو الشرع الذي يجب على الخلق قبوله، والى الكتاب والسنة يتحاكم جميع الخلق‏.‏

/ولهذا كان من أصول السنة والجماعة أن من تولي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالخلفاء الراشدين وغيرهم لا يجب أن ينفرد واحد منهم بعلم لا يعلمه غيره، بل علم الدين الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم يشترك المسلمون في معرفته، وإذا كان عند بعضهم من الحديث ما ليس عند بعض بلغه هؤلاء لأولئك؛ ولهذا كان الخلفاء يسألون الصحابة في بعض الأمور‏:‏ هل عندكم علم عن النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فإذا تبين لهم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم حكموا بها، كما سألهم أبو بكر الصديق عن ميراث الجدة لما أتته، فقال‏:‏ ما لك في كتاب الله من شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله شيئًا، ولكن حتي أسأل الناس‏.‏ فسألهم، فأخبره محمد بن مسلمة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس‏.‏

وكذلك عمر بن الخطاب لما سألهم عن الجنين إذا قتل، قام بعض الصحابة فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي فيه بغرة عبد أو أمة، أي من قتل جنينًا ضمنه بمملوك أو جارية لورثته، فقضي بذلك، قالوا‏:‏ وتكون قيمته بقدر عشر دية أمه، وعمر بن الخطاب قد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه‏:‏ ‏(‏إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر‏)‏، وروي أنه ضرب الحق على لسانه وقلبه وقال‏:‏ ‏(‏لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر‏)‏ ومع هذا فما كان يلزم أحدًا بقوله، ولا يحكم في الأمور العامة، بل كان يشاور الصحابة، ويراجع، فتارة يقول قولاً فترده / عليه امرأة فيرجع اليها، كما أراد أن يجعل الصداق محدودًا لا يزاد على صداقات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ من زاد جعلت الزيادة في بيت المال ـ وكان المسلمون يعجلون الصداق قبل الدخول، لم يكونوا يؤخرونه إلا أمرًا نادرًا فقالت امرأة‏:‏ يا أمير المؤمنين، لم تحرمنا شيئًا أعطانا الله إياه في كتابه ‏؟‏ فقال‏:‏ وأين‏؟‏ فقالت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏20‏]‏، فرجع عمر الى قولها، وقال‏:‏ امرأة أصابت، ورجل أخطأ‏.‏

وكان في مسائل النزاع مثل مسائل الفرائض والطلاق يري رأيًا ويري علي بن أبي طالب رأيًا، ويري عبد الله بن مسعود رأيًا، ويري زيد بن ثابت رأيًا، فلم يلزم أحدًا أن يأخذ بقوله، بل كل منهم يفتي بقوله، وعمر ـ رضي الله عنه ـ إمام الأمة كلها، وأعلمهم، وأدينهم، وأفضلهم، فكيف يكون واحد من الحكام خيرًا من عمر، هذا إذا كان قد حكم في مسألة اجتهاد‏.‏

فكيف إذا كان ما قاله لم يقله أحد من أئمة المسلمين، لا الأربعة ولا من قبلهم من الصحابة والتابعين، وإنما يقوله مثله وأمثاله ممن لا علم لهم بالكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة، وإنما يحكمون بالعادات التي تربوا عليها، كالذين قالوا‏:‏ ‏{‏ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 32‏]‏، وكما تحكم / الأعراب بالسوالف التي كانت لهم وهي عادات، كما يحكم التتر بالياساق الذي جرت به عاداتهم، وأما أهل الإيمان والإسلام والعلم والدين فإنما يحكمون بكتاب الله وسنة رسوله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 50‏]‏‏.‏

والله ـ سبحانه ـ لم يرض بحكم واحد بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما فإنه لا يعلم أيهما الظالم، وليس بينهما بينة، بل أمر بحكمين، وألا يكونا متهمين، بل حكمًا من أهل الرجل وحكمًا من أهل المرأة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 35‏]‏، أي الحكمين ـ ‏{‏ يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا ‏}‏ أي‏:‏ بين الزوجين‏.‏ فإن رأيا المصلحة أن يجمعا بين الزوجين جمعا، وإن رأيا المصلحة أن يفرقا بينهما فرقا‏:‏ إما بعوض تبذله المرأة فتكون الفرقة خلعًا إن كانت هي الظالمة، وإن كان الزوج هو الظالم فرق بينهما بغير اختياره‏.‏ وأكثر العلماء على أن هذين حكمان، كما سماهما الله حكمين، يحكمان بغير توكيل الزوجين، وهذا قول مالك والشافعي والإمام أحمد في أحد قوليهما، وقيل‏:‏ هما وكيلان كقول أبي حنيفة والقول الآخر في المذهبين‏.‏

/فهنا لما اشتبه الحق لم يجعل الله الحكم لواحد، وهو في قضية معينة بين زوجين، ولو حكم حاكم واحد بين الزوجين في أمر ظاهر لم ينفذ حكمه باتفاق المسلمين، فيكف بأمور الدين والعبادات التي يشترك فيها جميع المسلمين، وقد اشتبهت على كثير من الناس‏.‏ هذا بإجماع المسلمين لا يحكم فيه إلا الله ورسوله، فمن كان عنده علم مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بينه وأوضحه للمسلمين، والمسلمون إذا عرفوا شرع نبيهم لم يعدلوا عنه‏.‏

وإن كان كل قوم يقولون‏:‏ عندنا علم من الرسول ولم يكن هناك أمر ظاهر يجمعون فيما تنازعوا فيه كان أحد الحزبين لهم أجران، والآخرون لهم أجر واحد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَفَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 78، 79‏]‏

وولي الأمر إن عرف ماجاء به الكتاب والسنة حكم بين الناس به، وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا حتي يعرف الحق حكم به‏.‏ وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا ترك المسلمين على ما هم عليه كل يعبد الله على حسب اجتهاده، وليس له أن يلزم أحدًا بقبول قول غيره وإن كان حاكمًا‏.‏

/وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا فقد حكموا بغير ما أنزل الله، ووقع بأسهم بينهم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم‏)‏، وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول كما قد جري مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا، ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره فيسلك مسلك من أيده الله ونصره، ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه، فإن الله يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40، 41‏]‏، فقد وعد الله بنصر من ينصره، ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله، ويتكلم بما لا يعلم، فإن الحاكم إذا كان دَيِّنا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار، وإن كان عالمًا لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولي أن يكون من أهل النار، وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص‏.‏ وأما إذا حكم حكمًا عامًا في دين المسلمين فجعل الحق باطلاً والباطل حقًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والمعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ونهي عما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهي الله عنه ورسوله، فهذا لون آخر‏.‏ يحكم فيه رب العالمين، وإله المرسلين مالك يوم الدين، الذي ‏{‏ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَي وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَاليه تُرْجَعُونَ ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 70‏]‏، ‏{‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ على الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَي بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 28‏]‏، والحمد لله رب العالمين‏.‏ وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏